فاطمة محمد الشيباني

فنانة تشكيلية

تضيء الساحة الفنية في قطر بفنانين يبدعون في مختلف أشكال الفن، ولا يخفى على أحد الدعم الكبير الذي يحظى به الفن والفنان القطري من المؤسسات الحكومية والخاصة، بالإضافة إلى حب الجمهور لهم كما تشهد عليه منصات التواصل الاجتماعي، إلا أن هذا الواقع الجميل للفنان كان يُعتبر رفاهية لمن سبقوهم في رحلة الفن من الجيل القديم، وفي هذه المقابلة نسلط الضوء على إحدى هذه الرحلات والمتمثلة في الفنانة الفريدة فاطمة محمد الشيباني، لتحكي لنا عن قصة نجاحها كفنانة تحدت الواقع في قطر حتى وصلت لفلسطين، فمن هي فاطمة محمد الشيباني؟ 

Fatma Mohammed Al-Shebani

أحب أن أصف نفسي كحالة تشكيلية متمردة على المعهود المُتكدس لدينا، والتي كانت حبيسة الجدران لسنوات عديدة، فلم تستوعبها هذه الجدران، فتكسرت وتناثرت، وأدت إلى ولادة هذه الإنسانة، كما أعتبر نفسي المتفائلة المحبطة، والمهزومة المقاتلة، والعذبة المُرّة، والإنسانة ولستُ الأنثى.

 

هل كان طموحكِ الفن دائمًا؟

تربيتُ في بيئة تحب الفن والكتب، إلا أنني لم أختر الفن، بل هو الذي اختارني، صحيح أنه كانت لديّ الموهبة منذ البداية، ولكن الفن هو الذي اختارني في الآونة الأخيرة، وقبل تعمقي في الفن التشكيلي، كنتُ أكثر ارتباطًا بالشعر، ومنذ صغري عملتُ على تطوير موهبة الرسم بالإضافة إلى الشعر، فمثلاً كنتُ أرسم وجوه أفراد عائلتي ومن حولي، كما كنتُ أرسم الخيول، وغيره من الرسم الواقعي بعد مرحلة الدراسة، أكملتُ دراستي العليا في الفن، ولكن اختياري لدراسة الفن في الجامعة كان مجرد صدفة، وبعدها تزوجتُ وكونتُ أسرتي، ولم يتبادر إلى ذهني أبدًا أن أصبح فنانة، وكل مشاركاتي في المعارض الفنية وغيره كانت مشاركات بسيطة ومن ضمن جماعات، ولكني كنتُ أفكر وقتها أن كوني من ضمن جماعة قد لا يساعد فني كثيرًا، لأن عملي لن يبرز، فقررتُ أن أحلّق لوحدي رغم صعوبة الرحلة، ولكن الصعوبات لم تكن عائقًا، لأنني منذ صغري أحب أن أغامر في الأماكن الخطرة والوعرة، ولله الحمد، استطعتُ التميز والتفرّد في رحلتي وفي الفن الذي أقدمه وحاليًا مع الممارسة والتجربة زادت مواهبي لتشمل موهبة النحت والتشكيل، وإنجاز المشاريع من مرحلة الإلهام والتفكير، ثم التخطيط وصنع مجسم صغير للعمل الفني، وبعدها صنع المجسم بالحجم المطلوب، وأخيرًا نَصبها في المكان بمساعدة العُمّال، والعمل في موقع مع فريق من العمال وإدارة المشاريع تعلمتهما من والدي الذي كان من أوائل الذين أسسوا مصنع للطابوق في قطر، فكنتُ في صغري أذهب معه إلى موقع العمل، وأراقب طريقة العمل وأسلوب التعامل مع فريق، كما كنتُ فضولية، أسأل مما تُصنع الأشياء وكيف، وفي رأيي ما يصنع الفنان الناجح هو الفضول، وحب السؤال حتى يفهم، حتى أنني كنتُ أسمّي نفسي: أنثى القلق والورق من شدة فضولي وحبي للاستفسار، واليوم 99% مما أعرفه هو ناتج من الممارسة، والباقي هو الموهبة. 

 

ذكرتِ أنكِ كنتِ حبيسة الجدران، حدثينا عن ذلك.

أكثر أقصد بالجدران العادات والتقاليد والواقع الذي كانت تعيشه النساء قبل، وأتحدث هنا عن الوقت الذي كان من العيب فيه أن تعمل الفتاة، ومن العيب أن تظهر وجهها في الإعلام، وأن تخالط الرجال، وطبعًا، مسمى "فنانة" بحد ذاته كان عيبًا، وقد كنتُ من أوائل النساء اللواتي وضعن أنفسهن أمام مدفع المجتمع، لأنني كنتُ مثل الطائر أو الفراشة المحبوسة بداخل الجدران، ولكني كنتُ أبحث عن النور، ولذا حاولتُ أن أتجاوز هذه الجدران لأستطيع التعبير عن مكنونات قلبي من خلال أعمالي الفنية.

 

كيف كانت رحلتكِ في عالم الفن؟ 

في بداياتي كان لديّ شغف، وشغفي كان محاربة الأُمّية البصرية والتلوث الفني في قطر، وبدأتُ في الظهور في المعارض الجماعية، ومنها حلّقتُ خارج السرب لوحدي، لأن "فاطمة الفنانة" كانت تضيع عندما تكون من ضمن مجموعة، وهذا كله دفعني إلى الأمام لأنفرد بأول معرض شخصي لي في عام 2004 م، والذي أقيم في شيراتون الدوحة، كما اخترتُ أن يتوافق فترة المعرض مع مهرجان الدوحة للأغنية لسنة 2004 م، وكان اختيار التوقيت موفقًا حيث ساهم في نجاحه ، وجذب أنظار الإعلام العالمي، وأعتبر هذا ذكاء من الفنان حين يخطط فترة معرضه ليتوافق مع فعالية كبيرة في الدولة، فيجذب أنظار السياح إلى معرضه، بالإضافة إلى انتباه الصحفيين المحليين والعالم العربي الذين قد يزورون الدولة وقت الأحداث الكبيرة لتغطيتها، فيكون وكأنني أحصل على دعاية مجانية لمعرضي داخل قطر وخارجه. وبعد ذلك المعرض بشهرين بدأتُ أشعر إلى حاجتي للانتشار خارج قطر، وأردتُ أن أصل إلى مجتمعات أخرى تفهم فني وتفكيري، وهكذا كان لي معرضًا خاصًا في بيروت، وبعد المعرض الثاني بسنة كان لي معرضًا شخصيًا في جدة والرياض في عام 2005 م، وكنتُ أول فنانة تقيم معرض مختلط في الرياض، لأن المعارض في السعودية كان ممنوع فيها اختلاط النساء بالرجال، والحمد لله، استطعتُ أن أكسب لي جمهورًا كبيرًا من السعودية والوطن العربي، وكانت لي معارض أخرى بعد تلك التجارب في أبوظبي وباريس، وهنا كانت انطلاقتي التي كنتُ أطمح إليها، ومثل هذه الانطلاقات تتطلب من الفنان أن يخطط جيدًا توقيت معرضه، وأن يرتب أفكاره بما يتناسب مع الوقت، وهذه كلها أمور تساعد الفنان على الانتشار، كما ساعدني على أن أستمر بنجاح في مسيرتي الفنية وبعد هذه المعارض ظل هاجس في بالي، وهو أن أقدم معرض فني في فلسطين، ووقتها لم يكن يوجد فنان قطري قد قام بذلك، والحمد لله لأنني استطعتُ تحقيق ذلك في عام 2009 م حين زرتُ غزة، وقمتُ بوضع نصب تذكاري في مكان عام، وكان هذا قبل زيارة الأمير الوالد الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني لغزة، وفي عام 2013 م زرتُ فلسطين مرة أخرى، وهذه المرة رسمتُ على جدار العزل، كما كنتُ أول قطرية تقوم بمعرض فني في بيت لحم في فلسطين، وهذه المعارض كانت فرصة لي للوصول إلى الشعب الفلسطيني والتواصل معهم.

 

كيف كانت ردة فعل المجتمع تجاه فنك؟

واجهتني ردود أفعال مختلطة ما بين الإيجابي والسلبي، لكن النساء في المجتمع دعمنني كثيرًا، كما حظيتُ بدعم كبير من مؤسسات الدولة ووزاراتها، خاصة في وقت كانت الساحة الفنية تفتقر إلى الفنان القطري، بالإضافة إلى عدم ثقة المجتمع بمقدرة الفنان القطري على إنجاز المشاريع الكبيرة، وحتى الخطوط القطرية كانت داعمة لي فيما يخص شحن ونقل مجسماتي وأعمالي أما بالنسبة للآراء السلبية التي كانت تُحبط الفن والنساء بشكل عام، فقد واجهتُ تلك الآراء بذكاء ودبلوماسية، وكنتُ أجاريهم في ذلك حتى أصل إلى ما أطمح إليه، فإن قال المجتمع أنه عيب على المرأة أن تنشر صورها، كنتُ أظهر بالصوت فقط، أو أنشر صور أعمالي، أو أوافق على المقابلات المكتوبة وهكذا، أمسك العصا من نصفه، وأساير المجتمع فيما يريد، وفي نفس الوقت أنجز ما أريد إنجازه، لأن الوصول إلى القمة ليس سهلاً، والشخص الذي يصل إلى القمة سيواجه مصاعبًا أكبر ورياحًا عاصفة، لكن طالما تمَسّك الإنسان بأحلامه، واستطاع أن يقف على أرض ثابتة وقوية فلن يهزه شيئًا، وما ثبتني هو الإيمان بالله، وإيماني بأنه لن يصيبني إلا ما قد كتبه الله لي، وكنت أشعر منذ صغري أن بداخلي عالم يريد أن يتنفس، وإذا لم أثبت في مكاني وأواصل المسير، سوف أقتل ذلك العالم والحمد لله، شهدت الساحة الفنية القطرية والمجتمع تغييرًا وتطورًا كبيرًا، فيحظى الفنان في الوقت الحالي بدعم معنوي ومادي من مختلف المؤسسات، ومنصات التواصل الاجتماعي وغيره سهلت للفنان الوصول إلى الجماهير المختلفة، كما تعددت الوسائل التعليمية المتوفرة، خاصة المتوفرة على الإنترنت، وهذه كلها أمور تجعل رحلة الفنان أسهل بكثير مقارنة بالرحلة التي مررنا بها نحن الفنانين من الجيل القديم الذي اضطر إلى دعم فنه بمجهوده الشخصي وبماله. 

 

حدثينا عن بعض أعمالكِ الفنية.

من أعمالي الحالية هو "البخنق"، لأنه من اهتماماتي كفنانة هو عَصرنة الماضي من خلال فني، والبخنق قد حُفر في مخيلتي، ففي صغري كنتُ أرى النساء من حولي يرتدين البخنق أو البَطّولة، والآن نادرًا ما أرى أحدًا يرتديه غير الجيل القديم، أو نرى البخنق في بعض الاحتفالات كالقرنقاعوه وغيره، ولهذا أردتُ أن أوثق البخنق في عمل فني مبتكر، والعمل الفني عبارة عن أشكال أسميه كائناتي الفضائية التي لها جسد وأيدي ورجلان ولكن بدون وجه، وهذه الكائنات تلبس البخنق، وتُصنع هذه المجسمات من مختلف المواد كالريزن، أو البرونز، لأنه يعتبر مادة أكثر حداثة كما أن لديّ عملاً فني يبرز البطولة، والتي ارتبطت صورتها في مخيلتي بجدتي، وكنتُ أفكر فيما تخفي تحتها من حكايات، كما أن النساء كُنّ يربطن بحجابهن مفتاح البيت، أو أي شيء يَخفن عليه من الضياع، وأخريات كُنّ يرتبطن نبات المشموم في طرف الحجاب، فتَحِل معها رائحة المشموم أينما تحركت، وهذه كلها صور محفورة في مخيلتي، وهذا ما أردتُ توثيقه من خلال عملي "البَطّولة" في عام 2012 م، وشاركتُ به في معرض أبوظبي، بالإضافة إلى مشاركتي في معرض في مدينة لندن عام 2015 م، وبعدها عُرض العمل لثلاث مرات في قطر، والآن يبيت العمل الفني في كتارا. ومن أعمالي القادمة عملاً فنيًا بعنوان "العاديات" مصنوع من البرونز، ويتكون من 9 خيول يقودهم شخص يحمل العلم القطري، ويرمز الرقم 9 إلى عدد الأسهم في العلم القطري، ويجسد العمل تصويرًا للقائد وشعبه خلفه يتبعونه، وسينصب العمل في اللؤلؤة، بالإضافة إلى عمل آخر بعنوان "دق الحَب" نسبة إلى ممارسة النساء قديمًا لدق وطحن الحبوب، وسيعرض هذا العمل في اللؤلؤة أيضًا، وهناك عمل آخر سيعرض قريبًا في كتارا، ويدعوا للمحافظة على شجرة السمر، والعمل عبارة عن رجل يحضن شجرة السمر.

 

ما هو الإلهام خلف أعمالكِ الفنية؟ 

أنا أستلهم أفكاري من بيئة قطر الطيبة، ويعتبر موروثنا الثقافي مصدر إلهام كبير لي، لأنه موروث دسم، ولذا استلهمتُ منه معظم أفكاري خاصة من بيئتنا البحرية والبرية، ومن خلال فني أحاول أن أقدم ثقافتنا في قالب عصري حتى يتفاعل معه الجيل الجديد، بالإضافة إلى تفاعل الجيل السابق مع فني، كما أنه من طموحي أن يتفاعل مع فني جماهير من خارج قطر والخليج وقد تطول معي رحلة صنع المجسمات، لأنني أحب أن أَضِيع في التفكير عن العمل الفني وطريقة عرضه، حتى أنني أحيانًا أقفل على نفسي الغرفة، وأطفئ الأنوار، وأفكر في ظلام دامس مع موسيقى عالية حتى ينجلي النور عن النتيجة التي أريد أن أصل إليها، وأنا أستمتع جدًا بمرحلة العمل، وكأن العمل ينصهر فيني وأنصهر فيه حتى يكتمل . 

 

ما هو أقرب أعمالكِ إلى قلبك؟

 ما يمثلني من الفن هو بحر التجريد التعبيري، وهو بحر يصعب الإبحار فيه لأنه يتطلب جهدًا كبيرًا، لأن العمل مع المجسمات واختيار المادة، والعمل على المجسم نفسه، كلها أمور تُنهك العقل والجسم، كما أن هذا البحر يتطلب من الفنان التعلم والتجديد المستمر وإلا غرق وفشل، ورغم تجربتي لمختلف الفنون، إلا أنني أجد نفسي في الحديد والبرونز والستايلنس ستيل، وفي الفن الذي يعرض في الأماكن العامة، وأحب العمل مع مواد مثل الحديد، صحيح أنه يصعب العمل معه، إلا أن مثل هذه المواد هي التي تمثل شخصيتي، وأحصل على متعة كبيرة وأنا أحاول أن أحول هذا المعدن القاسي إلى شيء ليّن أستطيع تشكيله، ولذا كل عمل من أعمالي له حكايته الخاصة، وكلهم مثل أطفالي لا أفرق بينهم، إلا أن "البخنق" ربما يكون الأقرب لقلبي وكل عمل لي يبدأ بفكرة، وهي مثل الومضة في الظلام، وتبقى هذه الفكرة في عقلي تتخمر وتكبر، وتبحث عن طرق لتصبح واقعًا ملموسًا، وبعدها أبدأ في رسم الفكرة على الورق، ومن ثم تحول الرسمة إلى مجسم ثنائي الأبعاد، ومنه إلى مجسم ثلاثي الأبعاد، وبعدها نصنع منه مجسمًا صغيرًا، وأخيرًا يصنع من المجسم الأخير العمل النهائي بأبعاده الحقيقية، وكل عمل يمر بمرحلة طويلة حتى يكتمل بالشكل المطلوب، ولديّ ورشتي الخاصة لإنتاج الأعمال في قطر، إلا أن لديّ شراكات مع مصانع في الصين وهونغ كونغ، لأن الأعمال الكبيرة تتطلب مهارة وكفاءة، ومن ثم تشحن الأعمال إلى قطر.  

 

هل واجهتِ أي تحديات في رحلتك؟ 

إن أسوأ ما يصيب الإنسان هو فقدانه للشغف، ورغم أنني لم أفقد شغفي، إلا أنه قد يتذبذب أحيانًا بسبب عوامل خارجية محبطة، وطبعًا كانت هناك عوائق أخرى وصعوبات، إلا أنني الحمد لله،كنتُ أنهض من كبوتي بسرعة، أبكي يومين أو ثلاث، وأرجع بعدها إلى نشاطي، وكل ما قدمته لفني من مجهود معنوي ومادي أجد نتيجته، وكل ما استثمرته في فني أجد مردوده اليوم، وأنا لم أنتظر من أي أحد أن يزيل لي العوائق، فدعمتُ نفسي بنفسي.

ما هي نصيحتك للنساء في قطر؟

حافظن على شغفكن، لأنه الباعث على الحياة والمفتاح السري، والدافع للعمل والاجتهاد لكل ما قد تصبوا إليه أنفسكن، وهو النور الذي سيساعدنا على الوصول إلى أنفسنا، واسعين في تحقيق أحلامكن مهما كانت الظروف والعوائق. 

 

  • كاتبة المقابلة: فاطمة أحمد.
  • تم تحرير المقابلة للوضوح والترتيب.
AR
Scroll to Top